غيب الموت امس عن 96 عاما، احمد بن بله، اول رئيس للجمهورية الجزائرية المستقلة بعد تحريرها من الاستعمار الفرنسي الذي استمر 132 عاما، واحد آخر زعماء حركات التحرر الوطني في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، رفيق جمال عبد الناصر وجوزف بروز تيتو، وتشي غيفارا، وباتريس لومومبا، وجوليوس نيريري، وكوامي نكروما واحمد سوكارنو.
واذا كانت فترة حكمه للجزائر المستقلة لم تدم سوى سنتين من 1963 الى 1965، تاريخ الانقلاب عليه الذي قاده وزير الدفاع الاقرب اليه هواري بومدين، فانه لايمكن الحديث عن حركة التحرر الجزائرية من الاستعمار من دون التوقف عند التاريخ النضالي الطويل لاحمد بن بله. فهو ليس فقط أحد مؤسسي جبهة التحرير الوطني عام 1954 التي قادت حرب التحرير ضد الفرنسيين، ومن ثم اول رئيس للدولة بعد استقلالها، بل ان نضاله بدأ فعلا قبل ذلك بكثير اذ انضم في ريعان شبابه الى الحركة الوطنية بقيادة الزعيم التاريخي للنضال الوطني الجزائري مصالي الحاج بانتمائه الى حزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات الديموقراطية، وانتخب عام 1947 مستشارا لبلدية مغنية، ليصير بعدها مسؤولا للمنظمة التي هاجمت مكتب بريد وهران عام 1949 بمعية حسين آيت أحمد ورابح بيطاط وكانت بمثابة الطلقة الاولى للكفاح المسلح ضد الاستعمار.
اعتقلته سلطات الاحتلال الفرنسية سنة 1950 في العاصمة الجزائرية وحكم عليه بالسجن لمدة سبع سنوات. هرب من السجن سنة 1952 ليلتحق في القاهرة بآيت أحمد ومحمد خيضر وشكلوا لاحقا الوفد الخارجي لجبهة التحرير الوطني.
وقبض عليه مرة أخرى عام 1956 خلال عملية قرصنة جوية نفذها سلاح الطيران الفرنسي ضد الطائرة التي كانت تنقله من المغرب الى تونس في رفقة أربعة قادة آخرين لجبهة التحرير هم: محمد بوضياف، رابح بيطاط، حسين آيت أحمد ومصطفى لشرف). افرج عنه عام 1962 وشارك في مؤتمر طرابلس الذي تمخض عنه خلاف بينه وبين الحكومة الموقتة للجمهورية الجزائرية.
في 15 ايلول 1963 انتخب أول رئيس للجمهورية الجزائرية واستمر في هذا المنصب حتى حزيران 1965 تاريخ عزله بانقلاب عسكري نفذه وزير الدفاع الذي مهد طريقه الى رأس الدولة الفتية هواري بومدين، في ما سمي "التصحيح الثوري". واخذ بومدين على بن بله احتكاره تسعة مناصب حساسة في وقت واحد، وكان يقول إنه لجأ إلى الانقلاب انقاذا للثورة وتصحيحا للمسار السياسي وحفاظا على مكتسبات الثورة الجزائرية.
وظل بن بله معتقلا حتى 1980 على رغم تدخلات الاصدقاء والحلفاء وفي مقدمهم عبد الناصر الذي كان يرى فيه صورته الجزائرية. وبعد إطلاقه أنشأ في فرنسا الحركة الديموقراطية في الجزائر. وعاد نهائيا الى الوطن الام عام 1989 بعد إقرار التعددية السياسية.
كان بن بله عروبيا ونصيرا قويا للتعريب ولذلك استدعى آلاف المدرسين العرب من مصر والعراق وسوريا للمساهمة في قطاع التعليم، وقد اصطدم هؤلاء بمجموعة كبيرة من العراقيل البيروقراطية التي كان يضعها في طريقهم انصار الثقافة الفرنكوفونية. لكن بعض هؤلاء المدرسين اضطلع بدور غير مباشر لاحقا في نقل افكار بعض الحركات الاسلامية من المشرق الى المغرب.
وعلى رغم اقتناعه بعروبة الجزائر، الاّ أنّه كان ايضا مهووسا بالفكر الاشتراكي اليساري وكان متحمساً لبعض التجارب التي كانت سائدة في البلدان الاشتراكية، وتحمسه للفكر الاشتراكي واليساري جعله يصطدم بالرجل الثاني في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ البشير الإبراهيمي الذي ورث خلافة الجمعية من الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي توفي قبل نشوب الثورة الجزائرية، وفسّر البعض ذلك الصدام بأنّه بداية الطلاق بين النظام الجزائري والخط الإسلامي الذي كانت تمثله جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بقيادة الشيخ البشير الإبراهيمي.
ومثلما دخل بن بلة في صراع مع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فقد دخل في صراع آخر مع رفاق دربه، اذ شعر العديد من مفجرّي الثورة الجزائرية بأن البساط قد سحب من تحتهم وأنهم باتوا من دون أدوار في مرحلة الاستقلال.
وطد بن بله خلال حكمه علاقات الجزائر مع بقية الدول العربية كمصر والعراق وسوريا، كما حرص على مدّ جسور التواصل مع الدول الاشتراكية بدءاً بموسكو، مروراً بهافانا، وصولاً إلى بلغراد.
لكنه بعيدا من السلطة كان غيرَه فيها، فهو بعدها غير نظرته وابدى ندما على بعض قراراته لدى وجوده في قمة هرمها وكان اكثر تصالحا مع الفكر الاسلامي. فبن بله الثائر كان غير بن بلة السلطوي وكلاهما غير بن بلة المعارض وبن بله الانسان العادي الدمث والبشوش والمحب لاصدقائه واهله والجزائر.